د. علاء عوض يكتب: فيروس سي في مصر..
من البلهارسيا إلى السوفالدي
في
ستينيات القرن الماضي، اتخذت القيادة السياسية في مصر قرارا بمواجهة مرض
البلهارسيا والقضاء عليه.. كان هذا المرض واسع الانتشار
في
الريف المصري، وكانت مضاعفاته الخطيرة تهدد حياة الكثيرين من المرضى، وتؤثر بشكل
بالغ على صحتهم وقدراتهم الإنتاجية.
كانت
الخطة هي البحث عن الحالات المصابة وعلاجها بشكل جمعي، وهو تكنيك فعال في مجال
مقاومة الأمراض، وغالبا ما تكون نتائجه شديدة الإيجابية، لكن المشكلة الحقيقية
كانت في أداء البيروقراطية التي تدير جهاز الدولة، والتي تلقت الأمر واهتمت بتنفيذه
في الوقت المحدد وعلى نطاق واسع، وأهملت، أو بالأحرى، تجاهلت القواعد العلمية
اللازمة لتحقيق أكبر قدر من الفاعلية والأمان لهذه الحملة ذات الهدف النبيل.
كان
المرضى يصطفون في طوابير طويلة أمام الوحدات الصحية كاشفين أذرعهم في انتظار الحقن
الوريدي بعقار الطرطير المقئ، ولأن الوحدة كان عليها أن تفي بالمستهدف اليومي
المطلوب منها من عدد المرضى، فبالطبع لم يكن لديها الوقت الكافي لتعقيم أدوات
الحقنن ولو حتى بالطرق البدائية كالغليان.
انتهت
الحملة بنتيجة شديدة الغرابة، حيث نجحت في علاج البلهارسيا، وخلقت في نفس الوقت
أكبر وعاء بشري من المرضى الحاملين لفيروس سي.. تلك النتيجة التي وصفتها المجلات
الطبية العالمية بأنها المرة الأولي في التاريخ الإنساني التي تقوم فيه حملة
مكافحة لأحد الاوبئةن بخلق وباء آخر أكثر فتكا!
تمر
السنوات، ويبدأ المرض في الانتشار بكثافة في المجتمع، من خلال ممارسات وعادات
مجتمعية غير صحية من جهة، ومن خلال انتقال العدوى داخل المؤسسات العلاجية من جهة
أخرى. وعلى التوازي مع حالة الانتشار الواسعة التي جعلت مصر تحتل المركز الأول –
عالميا – من حيث معدل الإصابة بالمرض.
كانت
هناك عملية أخرى تتم بدأب شديد، وهي عملية تصفية مصانع الدواء المملوكة للشعب، وهي
شركات القطاع العام، في واحدة من أكبر عمليات النصب التي تعرض لها هذا البلد:
الخصخصة.
كانت
شركات الدواء في مصر تنتج قسما عظيما من الاحتياجات المحلية، وكانت تصدر بكميات
كبيرة إلى المنطقة العربية وأفريقيا، وكان لدينا شركة لتصنيع الخامات الدوائية
وأخرى لتصنيع العبوات الدوائية.. أي أننا ببساطة كنا نمتلك الأدوات اللازمة لتطوير
هذه الصناعة، وبدلا من أن تتجه الدولة إلى هذه المهمة والعمل على تحديثها على
مستوى التكنولوجيا ومستوى البحوث، قررت تجريفها وتحويلها إلى شركات خاسرة، تمهيدا
لبيعها والتخلص منها نهائيا، لنتحول إلى بلد يعتمد في دوائه على الاحتكارات
العالمية، ويبقى دائما أسيرا لمصالحها وإرداتها في أمور شديدة الأهمية، وهل هناك
أهم من صحة البشر؟
تمر
السنوات والعقود وتتعاظم مشكلات فيروس سي ومضاعفاته في مصر إلى درجة كارثية، وصلت
إلى أن كل أسرة مصرية – تقريبا – أصبح لها تجربة مريرة مع هذا المرض، في الوقت
الذي لم يستطع أن يقدم العلم فيه علاجا حاسما له.
وبعد
عقدين من اكتشاف الفيروس، يبدأ في الظهور أمل جديد باكتشاف جيل جديد من الأدوية
قادرة على تحقيق الشفاء بنسب تتجاوز 90%، ولكن الرياح لا تأتي دائما بما تشتهيه
السفن، ففي زمن تسليع العلم واحتكاره وارتباط قطاعات هامة من البحث العلمي بمراكز
القوة الحاكمة في العالم – وهذا موضوع يطول شرحه – كان من الطبيعي أن تأتي
الاكتشافات الدوائية الحديثة من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية، وأن
تكون أسعارها باهظة إلى درجة الجنون، وبما لا يتوافق مع القدرات الشرائية لحوإلى
170 مليون مريض على وجه هذا الكوكب.. 85% منهم من دول قليلة ومتوسطة الدخل.
هذه
الحالة المتناقضة خلقت أزمة ضخمة لملايين المرضى على مستوى العالم، كما أنها خلقت
أيضا تحديات ضخمة أمام الاحتكارات الدولية في كيفية التعامل مع هذا السوق غير
المتجانس.
في
فبراير 2014، وخلال اجتماع المجلس الاستشاري للجمعية العالمية لفيروس سي، والمنعقد
في مدينة بانكوك، قدمت بعض الشركات الأمريكية المنتجة لهذه الأدوية مخططا تسويقيا
لمنتجاتها، يعتمد على لائحة أسعار مختلفة وفقا للأوضاع الاقتصادية للدول المختلفة،
اعتمادا على تصنيف البنك الدولي، وعلى سبيل المثال طرحت شركة جلعاد الأمريكية
المنتجة لعقار السوفالدي، ثلاثة أسعار لهذا العقار على مستوى العالم.. يبدأ بسعر
28 ألف دولار أمريكي للعبوة الواحدة في الدول عالية الدخل، ويصل إلى حوالي ألفي
دولار في الدول متوسطة الدخل و300 دولار في الدول منخفضة الدخل.
هذا
التفاوت الرهيب في الأسعار، هو من مقترحات الشركة نفسها، وليس استجابة لأي ضغوط،
وهو يهدف بالأساس إلى إحكام السيطرة على السوق العالمي وترسيخ حالة الاحتكار، وهو
-في الوقت نفسه- يكشف بجلاء الأحجام المجنونة لربحية هذه المنتجات.
حق
الملكية الفكرية قضية شائكة تتعدد فيها الرؤى والاتجاهات والآراء، لكن الملفت
للنظر أن هذا الحق لا يتم الالتزام به على مستوى العالم، بحسم وصرامة، إلا في مجال
صناعة الدواء! وهو أمر يثير تساؤلات عريضة تستحق الانتباه والتأمل. وشركات الأدوية
الكبرى في العالم دائما ما تنتهج سياسة “التخضير
الدائم”، وهي تقوم على امتلاك حق الملكية الفكرية لمنتج ما، وفي نهاية فترة
الحماية، تقوم بإجراء بعض التحسينات والتعديلات الكيمائية عليه، ليصبح منتجا جديدا
يستحق الحماية، وتستمر هذه الدائرة بما يضمن استمرار الحالة الاحتكارية.
إلا
أن اتفاقية التريبز قد منحت كل دولة الحق في سن تشريعاتها المحلية التي تحدد
الابتكار الذي يستحق الحماية، وقد انتبهت دولة كـ”الهند” إلى هذه المسألة، وأنجزت
تعديلا تشريعيا يشترط – في الابتكار- أن يكون مستحدثا بالكامل، وليس مجرد تحسين
لمنتج سابق.
وكنتيجة
لذلك، لم تمنح الهند حق الملكية الفكرية لأدوية علاج الإيدز، وأنتجتها محليا،
وأصبحت تغذي بمنتجاتها 90% من أسواق الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، وحوإلى 80% من
إجمإلى السوق العالمي، مما دفع الشركات الأمريكية إلى تخفيض أسعارها بشكل ضخم
لاعتبارات المنافسة. أدركت شركة جلعاد أنها سوف تواجه نفس المصير مع أدوية فيروس
سي، وأنها لن تحصل على حماية حق الملكية الفكرية في الهند ودول أخرى.
وبما
أن الهند لديها شركات ضخمة لإنتاج الأدوية الخام، وهي منافس قوي في السوق العالمى،
هرعت جلعاد إلى الهند وعقدت اتفاقية مع سبع شركات تمنحها فيها ترخيصا طوعيا بإنتاج
السوفالدي نظير نسبة من المبيعات، وتحديد أسواق الدول منخفضة الدخل، فقط كسوق لتصريف
منتجاتها، وكانت هذه الاتفاقية استكمالا للسياسة التسويقية التي قدمتها في اجتماع
بانكوك 2014 .
ولكن
الهند لديها عشرات الشركات خارج حدود هذه الاتفاقية، مما يعني أن إمكانية التصنيع
المحلي بعيدا عن جلعاد مازالت قائمة، وبالفعل ظهر في الأسواق مؤخرا منتج مثيل
للسوفالدي من إنتاج شركة من بنجلاديش بسعر 50 دولار فقط للعبوة الواحدة، وبالقطع
هذه الشركة حققت أرباحا من بيع دوائها بهذا السعر.
ماذا
عن مصر؟! السؤال الأهم في هذا السياق.
بداية
لم تمنح مصر حق الملكية الفكرية لعقار السوفالدي، بالرغم من الضغوط الشديدة التي مارستها
جلعاد.. كان أمام الدولة المصرية خياران في التعامل مع واقع التطور العلاجي لهذا
المرض الذي يشكل أزمة صحية ضخمة تقع في صدارة المشهد المصري.
الخيار
الأول: هو تصنيع هذه الأدوية محليا من خلال شركات القطاع العام التي تم
دفعها نحو التآكل.. هذا الخيار كان سيحقق انتاجا وفيرا من هذه الأدوية بما يكفي
الاحتياجات الفعلية للمرضى في مصر، وبسعر زهيد للغاية، على اعتبار أن هوامش الربح
لدى هذه الشركات من المفترض أن تكون مقبولة، كما أنه سوف يمنح هذه الشركات قبلة
الحياة بتوفير خط إنتاج لمنتج له سوق عريض ومتعطش – ليس فقط على مستوى مصر- بل على
المستوى الأفريقي والآسيوي أيضا.
ومن
الجدير بالذكر أن هناك شركات هندية وصينية وسعودية تنتج المادة الخام لهذا الدواء
بأسعار زهيدة للغاية وبجودة عالية. وإذا كانت دولة ظروفها الاقتصادية وقدراتها
التكنولوجية ليست أفضل من حالنا مثل بنجلاديش، قد نجحت في الإنتاج بهذا السعر، فإن
ذلك يعني أننا نستطيع الكثير في هذا المجال.
أما
الخيار الثاني: فهو الاستمرار في نفس المسار والاعتماد على الاحتكارات
الدولية في الحصول على الدواء، والقبول بالسياسة التسويقية لشركة جلعاد ولائحة
الأسعار التي قدمتها، وللأسف كان هذا هو خيار الدولة، وكل ما استطاعت أن تربحه هو
الحصول على العقار في المراكز العلاجية لوزارة الصحة بسعر الدول منخفضة الدخل (300
دولار)، والابقاء على سعره في الصيدليات مثل الدول متوسطة الدخل (2000 دولار).
والنتيجة
الطبيعية لذلك، هو الخضوع لإرادة الشركة الأمريكية في توريد الدواء، مما يحد من
إمكانياتنا في بناء خطة علاجية فعالة وواسعة تشمل جميع المرضى، وكذلك تكبد مبالغ
ضخمة، مهما كانت نسبتها المنخفضة للسعر في السوق الأمريكي، كان من الممكن
استثمارها في تحديث شركاتنا المهملة وإعادة إحيائها لإنتاج هذه الأدوية.
الأمر
الخطير أيضا، هو أن هذا السعر الباهظ في الصيدليات، قد سمح لشركات القطاع الخاص
المصري، التي بدأت في إنتاج الدواء، أن تطرحه بسعر مبالغ فيه أيضا (2670 جنيه
للعبوة الواحدة)، لأن قواعد تسعير الدواء المثيل في مصر تعتمد على نسبة من سعر
المنتج الأصلي في السوق المصري.
باختصار
شديد.. قامت الدولة بتوقيع تعاقد مع شركة جلعاد الأمريكية، لم يراه أحد غير
الموقعين عليه، سمح للشركة بالتواجد في المراكز العلاجية لوزارة الصحة بالسعر
المقدم في لائحة أسعارها في الدول الفقيرة، وأصبحت هي صاحبة القرار في توقيت وكمية
توريد الدواء، وسمح لها بالتواجد في الصيدليات الخاصة بسعر مبالغ فيه جدا، مما أدى
إلى ارتفاع غير مبرر في أسعار المنتجات المحلية للشركات الخاصة.
السؤال
الآن: لماذا اختارت الدولة هذا الخيار، بالرغم من وضوح أهمية وجدوى الخيار الأول؟!
وبالرغم
من أن هذا السؤال يبدو مثيرا للحيرة والدهشة، فإنني لا أجده كذلك. المسألة ببساطة
أن السياسات الصحية، شأنها شأن كل السياسات، هي تعبير عن مصالح وانحيازات اجتماعية
بعينها، يتم ترجمتها إلى حزمة من القرارات والإجراءات التي تحقق هذه المصالح.
إن
أي موقف منحاز لمصالح ملايين المرضى الفقراء في ربوع الوطن، لابد أن يختار سياسات
تسمح بتوفير العلاج لكل المرضى على اختلاف مواقعهم الاجتماعية وشرائحهم العمرية
بدون أي تمييز، وهذا يعني بالضرورة التمسك بخيار الاستقلالية في السياسات
الدوائية، والتصنيع المحلي لأدواتنا في مواجهة أزماتنا الصحية المهمة، ومواجهة
حيتان الاحتكارات الدولية.
أما الانحياز لأطراف أخرى، فيعني بالضرورة
خيارات أخرى.. قل لي ما هي انحيازاتك، اخبرك بخياراتك